فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ} يعني يقووا حتى يقدروا على الظفر بكم. وفي الكلام محذوف وتقديره: كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم.
{لاَ يرْقُبُوْ فِيكُمْ} فيه وجهان:
أحدهما: لا يخافوا: قاله السدي.
الثاني: لا يراعوا.
{إِلأَ وَلاَ ذِمَّةً} وفي الإلّ سبعة تأويلات.
أحدها: أنه العهد، وهوقول ابن زيد.
والثاني: أنه اسم الله تعالى، قاله مجاهد، ويكون معناه لا يرقبون الله فيكم.
والثالث: أنه الحلف، وهو قول قتادة.
والرابع: أن الإل اليمين، والذمة العهد، قاله أبو عبيدة، ومنه قول ابن مقبل:
أفسد الناس خلوف خلفوا ** قطعوا الإلَّ وأعراق الرَّحِم

والخامس: أنه الجوار، قاله الحسن.
والسادس: أنه القرابة، قاله ابن عباس والسدي، ومنه قول حسان:
وأُقسم إن إلَّك من قريش ** كإل السّقْبِ من رَأل النعام

والسابع: أن الإل العهد والعقد والميثاق واليمين، وأن الذمة في هذا الموضع التذمم ممن لا عهد له، قاله بعض البصريين.
{وَلاَ ذِمَّةً} فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: الجوار، قاله ابن بحر.
الثاني: أنه التذمم ممن لا عهد له، قاله بعض البصريين.
والثالث: أنه العهد وهو قول أبي عبيدة.
{يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: يرضونك بأفواههم في الوفاء وتأبى قلوبهم إلا الغدر.
والثاني: يرضونكم بأفواههم في الطاعة وتأبى قلوبهم إلا المعصية.
والثالث: يرضونكم بأفواهم في الوعد بالإيمان وتأبى قلوبهم إلا الشرك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرضيه من المشركين إلا بالإيمان.
{وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} فيه وجهان:
أحدهما: في نقض العهد وإن كان جميعهم بالشرك فاسقًا.
والثاني: وأكثرهم فاسق في دينه وإن كان كل دينهم فسقًا. اهـ.

.قال ابن عطية:

{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً}
بعد {كيف} في هذه الآية فعل مقدر ولابد، يدل عليه ما تقدم، فيحسن أن يقدر كيف يكون لهم عهد ونحوه قول الشاعر: [الطويل]
وخيرتماني إنما الموت في القرى ** فكيف وهاتا هضبة وكثيب

وفي {كيف} هنا تأكيد للاستبعاد الذي في الأولى، و{لا يرقبوا} معناه لا يراعوا ولا يحافظوا وأصل الارتقاب بالبصر، ومنه الرقيب في الميسر وغيره، ثم قيل لكل من حافظ على شيء وراعاه راقبه وارتقبه، وقرأ جمهور الناس {إلًا} وقرأ عكرمة مولى ابن عباس بياء بعد الهمزة خفيفة اللام {إيلًا} وقرأت فرقة {ألًا} بفتح الهمزة، فأما من قرأ {إلًا} فيجوز أن يراد به الله عز وجل قاله مجاهد وأبو مجلز، وهو اسمه بالسريانية، ومن ذلك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين سمع كلام مسيلمة فقال هذا كلام لم يخرج من إل، ويجوز أن يراد به العهد والعرب تقول للعهد والخلق والجوار ونحو هذه المعاني إلًا، ومنه قول أبي جهل: [الطويل]
لإل علينا واجب لا نضيعه ** متين فواه غير منتكث الحبل

ويجوز أن يراد به القرابة، فإن القرابة في لغة العرب يقال له إل، ومنه قول ابن مقبل: [الرمل]
أفسد الناس خلوفٌ خلّفوا ** قطعوا الإل وأعراق الرحم

أنشده أبو عبيدة على القرابة، وظاهره أنه في العهود، ومنه قول حسان: [الوافر]
لعمرك أن إلَّك في قريش ** كإل السقب من رال النعام

وأما من قرأ {ألًا} بفتح الهمزة فهو مصدر من فعل للإل الذي هو العهد، ومن قرأ {إيلًا} فيجوز أن يراد به الله عز وجل، فإنه يقال أل وأيل، وفي البخاري قال جبر، وميك، وسراف: عبد بالسريانية، وأيل الله عز وجل، ويجوز أن يريد {إلًا} المتقدم فأبدل من أحد المثلين ياء كما فعلوا ذلك في قولهم أما وأيما، ومنه قول سعد بن قرط يهجو أمه: [البسيط]
يا ليت أمنا شالت نعامتها ** أيما إلى جنة أيما إلى نار

ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: [الطويل]
رأت رجلًا أيما إذا الشمس عارضت ** فيضحي وأما بالعشي فيخصر

وقال آخر: [الرجز]
لا تفسدوا آبا لكم ** أيما لنا أيما لكم

قال أبو الفتح ويجوز أن يكون مأخوذًا من آل يؤول إذا ساس.
قال القاضي أبو محمد: كما قال عمر بن الخطاب: قد ألنا وإيل علينا فكان المعنى على هذا لا يرقبون فيكم سياسة ولا مداراة ولا ذمة، وقلبت الواو ياء لسكونها والكسرة قبلها، والذمة أيضًا بمعنى المتات والحلف والجوار، ونحوه قول الأصمعي الذمة كل ما يجب أن يحفظ ويحمى، ومن رأى الإل أنه العهد جعلها لفظتين مختلفتين لمعنى واحد أو متقارب، ومن رأى الإل لغير ذلك فهما لفظان لمعنيين، {وتأبى قلوبهم} معناه تأبى أن تذعن لما يقولونه بالألسنة، وأبى يأبى شاذ لا يحفظ فعل يفعل بفتح العين في الماضي والمستقبل، وقد حكي ركن يركن، وقوله: {وأكثرهم} يريد به الكل أو يريد استثناء من قضى له بالإيمان كل ذلك محتمل. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ}
قال الزجاج: المعنى: كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم، فحذف ذلك، لأنه قد سبق، قال الشاعر:
وخَبَّرُتماني أنَّما الموتُ بالقُرى ** فكيفَ وهذي هضبةٌ وقليبُ

أي: فكيف مات وليس بقرية؟ ومثله قول الحطيئة:
فكيف ولم أَعْلَمْهُمُ خذلوكُمُ ** على مُعظَمٍ ولا أديمَكُمُ قَدُّوا

أي: فكيف تلومونني على مدح قوم؟ واستغنى عن ذكر ذلك، لأنه قد جرى في القصيدة ما يدل على ما أضمر.
وقوله: {يظهروا} يعني: يقدروا ويظفروا.
وفي قوله: {لا يرقبوا} ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يحفظوا.
والثاني: لا يخافوا، قاله السدي.
والثالث: لا يراعوا، قاله قطرب.
وفي الإلِّ خمسة أقوال:
أحدها: أنه القرابة، رواه جماعة عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، والسدي، ومقاتل، والفراء، وأنشدوا:
إنَّ الوشاة كثيرٌ إن أطعتهمُ ** لا يرقبون بنا إلًا ولا ذِمَمَا

وقال الآخر:
لعَمْرُكَ إنَّ إلَّكَ مِنْ قُرَيش ** كالِّ السَّقْبِ من رَأْلِ النَّعامِ

والثاني: أنه الجوار، قاله الحسن.
والثالث: أنه الله تعالى، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال عكرمة.
والرابع: أنه العهد، رواه خصيف عن مجاهد، وبه قال ابن زيد، وأبو عبيدة.
والخامس: أنه الحِلْف، قاله قتادة.
وقرأ عبد الله بن عمرو وعكرمة وأبو رجاء وطلحة بن مصرّف: {إيلًا} بياء بعد الهمزة.
وقرأ ابن السميفع والجحدري: {ألًا} بفتح الهمزة وتشديد اللام.
وفي المراد بالذمة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها العهد، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك في آخرين.
والثاني: التذمم ممن لا عهد له، قاله أبو عبيدة، وأنشد:
لاَ يَرْقُبُوْنَ بِنَا إلًا ولا ذِمَمَا

والثالث: الأمان، قاله اليزيدي، واستشهد بقوله: «ويسعى بذمتهم أدناهم».
قوله تعالى: {يرضونكم بأفواههم} فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يرضونكم بأفواههم في الوفاء، وتأبى قلوبهم إلا الغدر.
والثاني: يرضونكم بأفواههم في العِدَة بالإيمان، وتأبى قلوبهم إلا الشرك.
والثالث: يرضونكم بأفواههم في الطاعة، وتأبى قلوبهم إلا المعصية، ذكرهنَّ الماوردي.
قوله تعالى: {وأكثرهم فاسقون} قال ابن عباس: خارجون عن الصِّدْق، ناكثون للعهد. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ}
أعاد التعجب من أن يكون لهم عهد مع خُبث أعمالهم؛ أي كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاَّ ولا ذمة.
يقال: ظهرتُ على فلان أي غلبته، وظهرت البيت علوته ومنه: {فَمَا اسطاعوا أَنْ يَظْهَرُوه} أي يعلو عليه.
قوله تعالى: {لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلًا وَلاَ ذِمَّةً} {يرقبوا} يحافظوا.
والرقيب الحافظ.
وقد تقدم.
{إلًا} عهدًا؛ عن مجاهد وابن زيد.
وعن مجاهد أيضًا: هو اسم من أسماء الله عز وجل.
ابن عباس والضحاك: قرابة.
الحسن: جِوارًا.
قتادة: حِلْفًا، و{ذِمَّةً} عهدًا.
أبو عبيدة: يمينًا.
وعنه أيضًا: إلاَّ العهد، والذمة التذمم.
الأزهري: اسم الله بالعبرانية؛ وأصله من الألِيل وهو البريق؛ يقال ألّ لونه يَؤُلُّ أَلًا، أي صَفَا ولَمَع.
وقيل: أصله من الحدّة؛ ومنه الأَلّة للحربة؛ ومنه أُذُن مُؤَلَّلة أي محدّدة.
ومنه قول طَرفَة بن العبد يصف أذني ناقته بالحدّة والانتصاب:
مُؤَلَّلتان تعرف العِتْق فيهما ** كسامِعَتَيْ شاةٍ بحَوْمَل مُفْرَدِ

فإذا قيل للعهد والجِوار والقرابة إلّ فمعناه أن الأُذُن تُصرف إلى تلك الجهة؛ أي تحدّد لها.
والعهد يسمّى {إلًا} لصفائه وظهوره.
ويجمع في القلة آلال.
وفي الكثرة إلاَلٌ.
وقال الجوهري وغيره: الإلّ بالكسر هو الله عز وجل، والإلّ أيضًا العهد والقرابة.
قال حسان:
لعمرُكِ إنّ إلَّكِ من قريش ** كإلّ السَّقْب من رَأَل النَّعام

قوله تعالى: {وَلاَ ذِمَّةً} أي عهدًا.
وهي كل حُرمة يلزمك إذا ضيّعتها ذنب.
قال ابن عباس والضحاك وابن زيد: الذِّمة العهد.
ومن جعل الإلّ العهد فالتكرير لاختلاف اللفظين.
وقال أبو عبيدة مَعْمَر: الذمة التذمم.
وقال أبو عبيد: الذمة الأمان في قوله عليه السلام: «ويسعى بذمتهم أدناهم» وجمع ذِمّة ذِمم.
وبئر ذَمّة (بفتح الذال) قليلة الماء؛ وجمعها ذِمام.
قال ذو الرُّمّة:
على حِمْيَرِيَّات كأنَّ عُيونَها ** ذِمامُ الرّكايا أنْكَزَتْها المَوَاتحُ

أنكزتها أذهبت ماءها.
وأهل الذمة أهل العقد.
قوله تعالى: {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ} أي يقولون بألسنتهم ما يُرضي ظاهره.
{وتأبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} أي ناقضون العهد.
وكل كافر فاسق، ولكنه أراد هاهنا المجاهرين بالقبائح ونقض العهد. اهـ.

.قال الخازن:

{كيف وإن يظهروا عليكم}
قيل هذا مردود على الآية الأولى تقديره كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم {لا يرقبوا فيكم إلًا ولا ذمة} قال الأخفش معناه، كيف لا تقتلونهم وهم إن يظهروا عليكم أي يظهروا بكم ويغلبوكم ويعلو عليكم لا يرقبوا أي لا يحفظوا.
وقيل: معناه لا ينتظروا.
وقيل: معناه لا يراعوا فيّكم إلًا.
قال ابن عباس: يعني قرابة.
وقيل: رحمًا وهذا معنى قول ابن عباس أيضًا.
وقال قتادة: الإل الحلف.
وقال السدي: هو العهد وكذلك الذمة وإنما كرر للتأكيد أو لاختلاف اللفظين: وقال أبو مجلز ومجاهد: الإل هو الله ومن قول أبي بكر الصديق لما سمع كلام مسيلمة الكذاب إن هذا الكلام لم يخرج من إل يعني من الله وعلى هذا القول يكون معنى الآية لا يرقبون الله فيكم ولا يحفظون لا يراعونه {ولا ذمة} يعني ولا يحفظون عهدًا {يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم} يعني يطيعونكم بألسنتهم بخلاف ما في قلوبهم {وأكثرهم فاسقون} فإن قلت إن الموصوفين بهذه الصفة كفار والكفر أخبث وأقبح من الفسق فكيف وصفهم بالفسق في معرض الذم وما الفائدة في قوله: {وأكثرهم فاسقون} مع أن الكفار كلهم فاسقون.
قلت: قد يكون الكافر عدلًا في دينه وقد يكون فاسقًا خبيث الفسق في دينه فالمراد بوصفهم بكونهم فاسقين أنهم نقضوا العهد وبالغوا في العداوة فوصفهم بكونهم فاسقين مع كفرهم فيكون أبلغ في الذم وإنما قال أكثرهم ولم يقل كلهم فاسقون لأن منهم من وفى بالعهد ولم ينقضه وأكثرهم نقضوا العهد فلهذا قال سبحانه وتعالى: {وأكثرهم فاسقون}. اهـ.